تنامي النَزعَة العَدَمية: الشعور باللاجدوى والإيمان باللاشيء

BY: Administrator

هَل أبدو لكَ حقًّا كَرُجُل يسير وِفقَ خُطّة؟

هَل تعلَم مَن أنا؟

أنا أشبه بكلب يُطارد سيّارة

لا يَعلَم ماذا سيفعَل لو أمسكَ بها

أنا فقط… أنا فقط أفعل الأشياء (هكذا بلا معنى)

الجوكر في فيلم The Dark Knight حينما يتسلّل إلى المُستَشفى مُتنكِّرًا في زيّ مُمرّضة

 

وِفق جاني فاتيمو في كتابه “نهاية الحداثة” وحسب المُلاحظة التي أوردها نيتشه في مُستهلّ كتابه: إرادة القُوّة، فإنّ العَدَمية هي الحالة التي يتدحرج فيها الإنسان من موقعه نحو X وهكذا في تدحرجات لانهائية نحو مجهول.

أمّا  الفيلسوف الفرنسيّ ميشيل أونفراي فيُعرِّف العدمية بأنّها: عدم القدرة على ربط الحاضر بالماضي أو بالمُستقبل، بحيث يتأسس عصر اللحظات الآنية، المقطوعة عمّا مضى وعمّا سيأتي.

 إنّه عصر اللحظة، عصر الآن، الـ تغريدة Tweet، عصر الخبر العاجل الذي سيشغلك ويُنسيك الذي قبله، هُناك خبر عاجل: مركز العالَم هو أنتَ! لكن احزر ماذا؟ غدًا: لن يكون أنت، وعادي جدًّا أن تعيش بعد غد وأنتَ لا تذكر ما الذي كان يشغلك بالأمس. هُناك قناة تلفزيونية خاصة للكلاب، بإمكانك أن تغادر المنزل وتترك كلبك يُشاهدها.

لقد أذهل أونفراي رصده لخبر حول شاب شاذ جنسيًّا، أراد أن يُنجب، وأراد امرأة بالطبع، فطلب من أُمّه أن تكون حاضنة لإبنه من خلال التلقيح الصناعيّ، هكذا إذًا، الكلاب تشاهد التلفاز، والأُمّهات يُنجبن أطفال أبنائهن، ويقول:  إنّنا حقًّا في لحظة تاريخية أُصبنا بها بالجنون، فما قيمة حضارة ليس لديها ما تنتجه سوى هذا الجنون؟

 يقدّمون لنا مُوسيقى صامتة 4.33 دقيقة صامتة لجون كيج، فن تشكيلي بدون موضوع، رواية بدون بطل، قصّة بدون حبكة أو موضوع، سينما بدون صورة. إنّنا لا نُنتج شيء، لا نبتكر أي شيء، إنّها صعود للعدمية. ينشأ حزب مُحاربة الكُزبرة، وقد تستيقظ لتجد نفسك عضوًا في مقاومة التصحّر، وتدافع عن قضايا بيئية لا بوصفها تمسّك ، وإنّما لأنّ لا أحد يعنى بها وهكذا.

يُوجَد بالفِعل حركة جماهيرية لمُكافحة الكُزبرة باعتبارها قرف يجتاح العالَم ويُفسِد الطعام. (انظر موقع  www.Ihatecilantro.com)

 

ويُفسّر فاتيمو هذا الاهتمام بالأقلّيات والمواضيع الهامشية، باعتباره ردّ فعل على تفريغ القِيَم العُليا وعلى موت الإلهيّ، بالمُطالبة بقِيَم بديلة، بحيث تحلّ محلّ القِيَم السابقة، إذ لا ينبغي أن يبقى المُقدّس مكانًا فارِغًا، بل يجب مَلؤُه بقِيم وإن كان مُدنّسة أو تافهة، لكن تشغل حيّز المُقدّس الغائب. قِيَم، تبدو لِمَن يُنادون بها، أكثر حقيقية وواقعية، فهي ملموسة ودُنيوية، مثل المُطالبة بحقوق: الثقافات الهامشية، والثقافات الشعبية، المُقابلة لقِيَم الثقافات الغالبة، وكذا ردّ الاعتبار للمُنتجات الثقافية الخارجة عن السائد، فيشيع الترويج للمنتوجات الغريبة المَبنية على كسر القوانين الأدبية والفنية وتدميرها وتجاوزها.

ونحن نُحاول أن نتجاوز هذه الفجوات من خلال إعادة تشكيل علاقتنا بالتاريخ والعالَم، فيتحدّد نمط العَلاقة مع الماضي، بالنسيان، ويتحدّد نمط العَلاقة مع المُستقبل باللامبالاة. فبالنسيان وباللامبالاة نعيش اللحظيّ واليوميّ، ونلتهي عن القلق والخوف.

فالعَدَمية حالة عامّة تجتاح الفِكر والفَن والعمارة والأدب والسلوك، فإذا ما أخذنا العَمَارة على سبيل المثال.

أمّا على مُستوى الأدب، فيرجع بنا التاريخ إلى بدايات ميلاد العَدَمية عند فلوبير وبودلير، ولنتناول جُزء من قصيدة بودلير “الهاوية” التي نرى فيها مَلامح العَدمية، وفيها يقول:

 

يا للأسف كُلّ شيءٍ هاوية، الفعل والرغبة والحلم والكلمات

وعلى شَعر جسدي الذي يقف تمامًا

أحسّ ريح الخوف تسري مرّاتٍ ومرّات

فوق، تحت، في كلّ مكان، القاع، الشاطئ

الصمت، المدى المُخيف الآسر..

وعلى خلفية ليالي يرسم الله بإصبعه الخبيرة

كابوسًا مُتعدّد الأشكال لا يتوقّف:

إنّي لأخشى النوم، كما تُخشى حُفرة كبيرة

قد مُلئتُ تمامًا برُعبٍ غامض، يُفضي إلى حيثُ لا ندري،

ولا أرى عبر النوافذ كُلّها غير ما لا ينتهي

وعقلي المسكون دائمًا بالدُوار

يحسدُ العَدَمَ على قسوته.

 

من أين تتولّد العَدَمية؟

 

– هيّا بِنا لِنَمضِ !

– لا نستطيع !

– لماذا؟

– عَلينا أن ننتظر جودو !

– مسرحية “في انتظار جودو” لصموئيل بيكيت أهم تجسيد مَسرحيّ لمسألة العَدَمية (في انتظار مَعنًى لا يَجيء)

 

بحسب نانسي هيوستن، توجّه الفكر الأوروبيّ في الماضي في اتجاهين مُتضادين ظاهريًا: الطوباوية، والعدمية. يرى الطوباويون أنّ على المرء أن يَصُبّ جهودَه، تفكيره وأفعاله في خدمة قضية أو ثورة تجعل من العالَم مكانًا أفضل. أمّا العدميون: فيرون أنّه نظرًا لأنّ كلّ أفعال الإنسان عبثية وكلّ الآمال محكوم عليها بالفشل، فقد يكون من الأجدر أن لا نُبالي بشيء، أو أن نغادر هذا الوجود ببساطة. الجماعة الأولى تتشبّث ببناء مُستقبل مُشرِق، فيما تُصرّ الجماعة الثانية أنّ لا مُستقبل مُشرِق يلوح في الأُفق، ما الذي يعنيه كلمة مُشرِق أساسًا؟. بلغة بسيطة أولئك يقولون: لا بُدّ من تكسير البيض كيّ نصنع العجّة، وهؤلاء يُؤكدّون أن لاشيء يستحقّ العناء، لا البيض ولا العجّة، إذ لا أحد يشعر بالجوع أصلًا.

لكن مُنذ متى على وجه الدقّة، ظهر هذا الشعور بالقطيعة بين الذات والعالَم؟ منذ متى تنامى هذا الإدراك لحضورنا في العالَم باعتباره عبثًا؟

يُجيب يوجين ايونسكو على هذا السؤال في كتابه، حاضرٌ ماضٍ، ماضٍ حاضر: منذ اللحظة التي بدأت فيها الآلهة بالانسحاب من العالَم! منذ تلك اللحظة التي فقد الصور ألوانها! منذ تلك اللحظة التي تُركنا فيها لأنفسنا، لمصيرنا، لعُزلتنا، لخوفنا.. فتولّدت المشاكل، ما العالَم؟ مَن نحن؟

ثمّة إجابة على هذا السؤال مرتبطة باالسياقات التاريخية التي مرّت بها البشريّة. إنّ لهذا الشعور بالخوف والعُزلة، هذا الشعور بزوال السحر عن العالَم، لحظة ميلاد مُعيّنة، تلك التي حدث فيها تبدُّل عظيم لنظرتنا للعالَم، والتي يُطلَق عليها ميلاد الحداثة. لقد انتقلنا تدريجيًا من عالَم مُؤسّس على الإلهي والخارق للطبيعة، إلى عالَم طبيعيّ، ميكانيكيّ. لقد تولّد شعور بفقدان المركزية، فقدان القيمة النوعية، فقدان غاية وجودنا، حين اكتشفنا أنّ كوكبنا ليس أكثر أو أقل من غُبار عائم في الفضاء، وأنّنا وأنّنا مُجرّد كوكب من ملايين الكواكب، وشمسُنا التي نمتدحها، ليست سوى نجم من مليارات النجوم الأخرى.

فإذا لَم يكُن الإنسان مركز الكون، فهل يعود لوجوده معنًى؟ هُنا يتأسّس الوعيّ التراجيدي باعتباطية الوجود، كما نسب شكسبير لماكبث فهمًا للحياة بوصفها: حكاية يرويها أحمق، حكاية صاخبة وعنيفة ولا معنى لها. أمّا باسكال فقد عبّر عن حيرته الوجودية بعبارات باتت مشهورة: غارقًا في الاتّساع اللانهائيّ للفضاءات التي أجهلها وتجهلُني، أُصاب بالذُعر.

ثُمّ جاء عصر الأنوار، وانقلبت البُنى السياسية والاجتماعية، وطُرحت أسئلة كيف تتأسّس المُجتمعات وكيف يُدير البشر أنفُسَهم بأنفُسِهِم؟ فحتّى إن تخلينا عن وجود مُدبّر عظيم، ولم تكن مصائرنا محكومة بقُوّة عُليا، فإنّنا سنتولّى أمورنا بأنفسنا، بفضل العِلم والعقل والتقدّم والتقنية وسنقضي على آلام البشرية وما يُخيفها. ولكن لسوء الحظ لم تسر الأمور على ما يُرام، فقد دفعت نزعة التحديث لمزيد من الاغتراب عن الذات، اغتراب شكلّه الماديّ والتقنّي، وثُمّ حدث هلع عام في تاريخ البشرية، مع وصول الأنظمة التوتاليتارية  وما قامت به من مذابح ومجازر بالملايين لا بالآلاف، وأمام تأمّل تلال من الجُثث وشعور بتفاهة الوجود وسهولة وصول الموت، بدا أنّ الحياة أكثر عبثية مما نظنّ.

 

العلاقة مع التاريخ: قطيعة مع الماضي والتقاليد

 

الدافع لحفظ التُراث هو جُزء من الدافع لحفظ الذات والحاضِر. فمن دون مَعرفة ما كُنّا عليه، يَصعُب مَعرفة إلى أين نحنُ ذاهبون. الماضي هو أساس الهُويّة الفردية والجماعية. ويُمثِّل الحنين إلى الماضي (النوستالجيا) عاملًا مُهِمًّا في التكيّف مع الأزمة، فهو مُسكِّن اجتماعيّ، وهو تعزيز للهُويّة القَومية حين تضعُف الثِقة بها أو يتهدّدها خَطَرٌ ما

– روبرت هويسون

 

في نهاية الأربعين تقريبًا من القرن العشرين، كتب الرسّام بول – إيميل بوردواس Borduas  بيانًا، بعنوان “الرفض الشامل” تصدّر الصُحُف وأثار جدلًا، وفيه يدعو الفنّانين “بأن لا يخضعوا بعد الآن لإملاءات الكنيسة الكاثوليكية ولا لأيّ شكل آخر من أشكال الضغط الاجتماعيّ أو الديني، فالفَن يبنغي أن يكون حُرًّا وكذلك الفنّانون، وقال: فليُفسَح المَجال للسحر، وليُفسَح المجال للحُب، سنواصل بِفرَح حاجتنا الوحشية للتحرّر”

وتأثّرًا بهذا البيان، فقد قام عدد من الرجال والنساء في العشرينيات من عُمرِهم، رسّامون، نحّاتون، مُمثّلون، بتوسيع مفهوم الحُريّة في البيان، ليتعدّى الحياة الفنّية إلى الحياة الخاصّة. فهجروا أبناءهم مُستلهمين ما قرؤوه عن جان جاك روسّو، ومُقتنعين بأنّ المدرسة والمُجتمع والآباء يُدّمرون الأطفال والأبناء، ومن الأفضل تركهم يكبرون وحدهم !

وقد تولّت رعاية أولئك الأبناء مؤسّسات كاثوليكية، تلك المُؤسّسات التي هاجمها آباء هؤلاء الأطفال بوقاحة، وليست القصّة هُنا. فبعدَ خمسين عامًا على هذه الحادثة، قامت مانون باربو Barbeau  والتي كان والداها من بين المُوقِّعين على هذا البيان، بتحقيق واسع، وأنتجت فيلم وثائقي، بعنوان “أطفال الرفض الشامل”. وباختصار، فإنّ التحقيق يُبيّن أنّ الأطفال لَم يشفوا من رحيل آبائهم، إذ انتحر ثلاثة منهم، وعديدون (أحدهم شقيق مانون، قد أُصيبوا بفصام الشخصية ويعيشون في مصحّات، والبقيّة يعيشون مُهمّشين وبحالة نفسية غير مُستقرّة في معظم الأحيان.

أمّا سوزان ميلوش، وهي والدة مانون، فقد رفضت استقبال ابنتها، ولكنّها أخبرتها عبر الهاتف: “لقد ذهبنا أبعد مما يجب، وبأسرع ممّا ينبغي”. هكذا إذًا ونتيجة لنزعة تقدّمية انعتاقية، أسطورة كامنة في جوهر الفلسفات المُعاصِرة في أنّ ما كان، ليس سوى التخلّف، وأنّ ما سيكون ليس سوى التقدّم. وأنّ استرجاع الماضي ضعف، وأن استحضاره قصور. وهو حنين مَرَضي لا ينبغي الركون إليه. وهكذا يُتحسّس مِن كُلّ ما هو ماضٍ من حيث هو ماضي، دون أن نُسائله بإنصاف فيما إذا كان صوابًا أم باطلًا.

 


لقد صار الفكر المُعاصِر عِلميًا، وغدا العُلماء يصفون العالَم “كما هُو” وليس “كما ينبغي أن يكون” أي أنّهم لم يعودوا يعبَؤون بتغيير أيّ شيء وصارت أعمالهم مُفرَغة من الحِكمة والهموم البشرية.

– لوك فيري، الإنسان المُؤلّه

 

فشل الطوبايات وانحسار الآيدولوجيا والعِلم المُجرّد

يُقرّر الفيلسوف الفَرنسيّ لوك فيري هذا الإشكال بقوله: ينبغي أن نُشير إلى واقعة حقيقية وملموسة، فبَعدَ انسحاب الديانات وبعد مَوت الطوباويات الكُبرى التي كانت تُدرِج أفعالنا في أُفق مشروع واسع وضخم، فإنّ مسألة المَعنى لَم تعد تجد مكانًا تُعبِّر عن نفسها فيه جماعيًا.

لقد منحت الطوباويات الكُبرى لعقود من الزمن، معنًى لحياة الأفراد، أولئك الذين كانوا يؤمنون بها، لأنّهم وجدوا ما يؤمنون به، أو حتّى لؤلئك الذين يحاربونها، لأنّهم بهذه الطريقة، وجدوا ما يؤمنون به أيضًا. فحتّى الطوباويات الأكثر مادية كالشيوعية مثلًا، كانت تتضمّن في صيغتها الأكثر دُنيوية فكرة وجود “ما وراء” للحياة الحاضرة، إنّها تصوّرت وخلقت وعودًا بكيفية لاهوتية. حتى أنّ لحظة خلاصية الثورة ما هي إلّا النظير العَلمانيّ للحظة الهداية الدينيّة. وحتّى قراءة الصُحف اليومية ومتابعة كلّ ما هو ثوريّ كان بمثابة صلاة الصُبح لديهم، يُعيدون فيها اكتشاف المعنى الشهير للتاريخ ولوجودهم ضمنه. فالمُناضل كان يعمل من أجل المُستقبل، من أجل الأجيال القادمة، من أجل مجيء الجنّة الأرضي.

ترك موت الطوباويات فراغًا، لا يُمكن ملؤه إلّا بمنظومة تملك نفس الفضائل اللاهوتية، وهُنا تكمن نقطة الضعف: فتطوّرات العَلمَنة بالتزامن مع تنامي النزعة الفردانية، تُقيم حاجزًا ضد عودة العقائد الدينية. لقد صار الفكر المُعاصِر عِلميًا، وغدا العُلماء يصفون العالَم “كما هُو” وليس “كما ينبغي أن يكون” أي أنّهم لم يعودوا يعبَؤون بتغيير أيّ شيء وصارت أعمالهم مُفرَغة من الحِكمة والهموم البشرية. وصارت الفلسفة ميدانًا أكاديميًا يتلخّص في تعليم تاريخها الخاص، وفي شرح ما مضى من فلسفات وأفكار وفي عقد المقارنات والمقاربات من أفلاطون إلى فرويد.

 

وسأتعرّض في المَقَال اللاحق لأفول الدين وانحساره من الفضاء العام والفراغ الذي خَلَقه هذا الانسحاب.